س1043: ما هي ضوابط الإنكار على المخالف، أنا أعلم أن من قال قولاً شاذاً كإباحة المعازف مثلاً، أو قال قولاً مخالفاً لنص صريح صحيح واضح، ينكر عليه ولا إشكال في ذلك .. لكن المقصود هل ينكر على المخالف في المسائل التي مع كل من المتنازعين فيها دليل، أو كان منشأ الخلاف فيها من جهة فهم الدليل مع اتحاد الدليل و نحو ذلك .. و ما هي المسائل التي ينكر على المخالف فيها والتي لا ينكر فيها على المخالف .. وهل هناك ارتباط بين كون المخالف معذوراً أو غير معذور وبين الإنكار عليه .. وهل يفرق بين المجتهد و المقلد في ذلك كله .. نرجو الإيضاح والتبيين؟؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين. الخلاف نوعان: خلاف تضاد، وخلاف تنوع.
خلاف التضاد: هو الذي يكون الحق فيه واحداً .. وهو نوعان كذلك: خلاف في الأصول، وخلاف في الفروع.
أما الخلاف في الأصول فهو نوعان كذلك: نوع له مساس بالتوحيد وشروطه، وأركانه .. وهذا النوع من الخلاف يترتب عليه كفر وإيمان، وكذلك ولاء وبراء .. وحب وبغض .. ومفاصلة تامة إن لم يستجب الطرف المبطل للحق، ودليل هذا النوع من الخلاف قوله تعالى:) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ (الممتحنة:4.
ونوع آخر له مساس بالأصول، لكن لا يترتب على الخلاف فيه ما يترتب على الخلاف في النوع الأول المذكور أعلاه، وإن كان يترتب عليه نوع إغلاظ وشدة .. وجفاء على الطرف المبطل المخالف ـ بحسب نوع وحجم المخالفة ـ كإغلاظ السلف على المخالفين لأهل السنة والجماعة من أهل الإرجاء وغيرهم في مسمى الإيمان وبعض مسائل الصفات وغيرها.
ومما يُستدل على الإغلاظ والشدة على المخالف في هذا النوع من الخلاف .. غضب النبي صلى الله عليه وسلم على أولئك النفر الذين كانوا يختصمون في القدر .. حتى ” كأنما يفقَّأ في وجهه حبُّ الرمان من الغضب “، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:” بهذا أُمرتم، أو لهذا خُلِقتم؛ تضربون القرآن بعضه ببعض، بهذا هلكت الأمم قبلكم “.
وكذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم من عمر رضي الله عنه عندما جاء بجوامع من التوراة إلى رسول الله، فقال: يا رسول الله جوامع من التوراة أخذتها من أخ لي من بني زُرَيق، فتغيَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة الغضب، مما حمل عمر على القول:” رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ نبياً، وبالقرآن إماماً “، فسُرِّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:” والذي نفس محمد بيده لو كان موسى بين أظهركم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ضلالاً بعيداً، أنتم حظي من الأمم، وأنا حظُّكم من النبيين “. فالقضية لها مساس وعلاقة بالمرجعية التي يُحتكم إليها، وتؤخذ منها القيم والمبادئ، والمفاهيم .. وهي قضية كبيرة جداً في دين الله .. لذا وجهت من قبل النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الشدة والحدة .. والوضوح.
أما الخلاف في الفروع: كالخلاف في بعض المسائل الفقهية العملية التي تحتمل أدلتها هذا الخلاف .. فهو إن كان ناتجاً عن نوع اجتهاد .. لا ينبغي أن يكون سبباً للأي نوع من الخصام والجفاء والاختلاف .. مع التأكيد على ضرورة المباحثة العلمية الراشدة التي توصل طرفي الخلاف إلى معرفة الحق فيما اختلفوا فيه .. وبكل أدب ومودة ومحبة .. بعيداً عن كل ما يوغر صدور الإخوان بعضهم على بعض.
هذا هو خلاف التضاد بنوعيه .. وقبل أن أنتقل إلى خلاف التنوع .. أقول: أن الإنكار والإغلاظ على المخالفين من أهل الشبهات يكون أشد من الإنكار والإغلاظ على المخالفين من أهل الشهوات .. ومن تتبع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح من بعده في تعاملهم مع المخالفين من النوعين .. يُدرك هذا المعنى الذي أشرنا إليه .. وبالتالي لا بد للدعاة الذين يتعاملون مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من إدراك ذلك، والتزامه.
أما خلاف التنوع: هو الذي يكون فيه الحق متعدداً وأكثر من خيار واحد .. والشرع أقرها كلها .. فالمرء له أن يختار ما يشاء منها فيعمل بها ومن دون أن يُنكر على مخالفه لو اختار خلاف خياره؛ كالصوم للمسافر من غير مشقة ولا ضرر .. فمن شاء صام .. ومن شاء أفطر .. فهذا مشروع وهذا مشروع، وبالتالي لا يجوز للصائم أن يُنكر على المفطر، ولا المفطر يُنكر على الصائم.
وكذلك استفتاح الصلاة قبل القراءة بالدعاء التالي:” سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدُّك، ولا إله غيرك ” أو بالدعاء الآخر:” وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً، وما أنا من المشركين، إن صلاتي، ونُسكي، ومحياي، ومماتي، لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين “. فمن شاء أخذ بهذا الدعاء وعمل به، ومن شاء أخذ بذاك .. ومن دون أن يُنكر أحدهما على الآخر، لثبوت الدعائين عن النبي صلى الله عليه وسلم .. والأمثلة على خلاف التنوع كثيرة وهي أكثر من أن تُحصر في هذا الموضع.
أما قولك:” وهل هناك ارتباط بين كون المخالف معذوراً أو غير معذور وبين الإنكار عليه “؟
أقول: نعم يوجد نوع ترابط، فالذي يقع في المخالفة عن عذر لا يُمكن له دفعه .. يُنكر عليه .. ويُعلم الحق .. برفق .. من دون أن يُعنَّف أو يُعاقب .. أو يُحمَّل مسؤولية ما وقع فيه من المخالفة عجزاً .. بخلاف من يقع في المخالفة من غير عذر .. فهو إضافة إلى الإنكار عليه .. وتعليمه الحق .. يُعنَّف .. ويُحمَّل مسؤولية مخالفته وتبعاتها .. إن كان يترتب عليها أي وعيد أو جزاء!
وقولك:” وهل يفرق بين المجتهد و المقلد في ذلك كله “؟
أقول: إن وقع المرء في المخالفة أو الخطأ .. عمداً من غير عذرٍ معتبر .. فهو مُستعتَب ومسؤول .. بحسب نوعية مخالفته أو خطأه .. سواء كان مجتهداً أم مقلداً .. ومن كان له وجه تأويل مستساغ أو عذر أو اجتهاد معتبر فيما قد خالف فيه .. يُعذر .. وتُقال عثرته وبخاصة إن كان من ذوي العلم والاجتهاد والجهاد .. إلى أن تقوم عليه الحجة الشرعية فيما قد خالف فيه، والله تعالى أعلم.
Facebook Comments Box